العناية المركزة والموت- بين التقدم الطبي وكرامة الرحيل.
المؤلف: أوس الحربش08.19.2025

خلال عقد من الزمان قضيته في أقسام العناية المركزة، ترسخ لديَّ قناعة بأنّ جوهر نظرة البشر إلى الموت لا يختلف باختلاف بلدانهم وأعراقهم، بيد أنّ طريقة تعاملهم مع هذه اللحظة الحاسمة تتباين تبايناً شديداً. فعلى الرغم من تنوع الأديان والثقافات، يتفق معظم الناس على أنّ الموت هو نهاية محتومة للحياة كما نعرفها، وأنّ ما يخبئه العالم الآخر يظلّ لغزاً عصياً على الفهم قبل حلوله، ممّا يستدعي إيماناً خالصاً لا يخضع للمنطق. هذا الشعور بالحتمية يولد حالة من التسليم والرضا لدى فئتين: أصحاب العقول المستنيرة والقلوب البسيطة، بينما يثير الارتباك والتشبث بالمستحيل لدى غيرهم.
من بين المفارقات التي أفرزتها مظاهر الحداثة الوافدة، نشأ رهاب شديد من التعامل مع الموت، ممّا أدى إلى إنكاره والهروب من حتميته. وقد تسبب ذلك في خلل في الظروف الطبيعية التي تحيط بالمحتضر وعلاقته بمحيطه وأسرته. ففي الماضي، لم يكن أجدادنا يجزعون من رعاية المحتضر كما هو الحال اليوم، ممّا يستدعي تدخلاً لإعادة العلاقة بين الإنسان المعاصر والموت إلى مسارها الصحيح. ما زلت أتذكر شيخاً وقوراً، خلال سنوات التدريب، طلب الانفراد بعائلته وإطفاء كل ما يزعج من أصوات الأجهزة وأنوارها وفحوصاتها الطبية، ليسترجع معهم أجمل لحظات حياته الغنية، ويستحضر قيمة كل فرد منهم، ويذكرهم باكتفائه وزهده في أيام قد يضعف فيها جسده وتخور قواه. كان في تعامله السامي مع هذا الأمر المحتوم مسكناً خفف من وطأة الفاجعة عليهم وعليه. لم يشأ ذلك الحكيم أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بينما الغرباء يعبثون بجسده، والإبر تخترق جلده، وأصوات المنبهات تصم آذانه في محاولات إنعاش شكلية لا طائل منها.
يعود مفهوم العناية المركزة إلى خمسينيات القرن الماضي، عندما قام الدنماركي بيورن إيبسن بإنشاء منطقة مجهزة للتعامل مع وباء شلل الأطفال آنذاك. وقد أدت جهوده تلك، وبالأخص استخدام التنفس الاصطناعي، إلى خفض معدل الوفيات من 90% إلى 25%. أما مفهوم الإنعاش القلبي بنسخته الحديثة فيعود إلى ستينيات القرن ذاته. أحدثت هذه الثورات الطبية تحولاً جذرياً في زيادة متوسط عمر الإنسان في جميع أنحاء العالم، وما زلنا نجني ثمارها حتى يومنا هذا. في ثمانينيات القرن الماضي، بدأ العالم الطبي يستفيق من نشوته، وبدأت تظهر على السطح شوائب أخلاقية عكرت صفو الممارسات النبيلة التي سعت إلى إنعاش الحياة وإطالة أمدها. فقد تبين، على سبيل المثال، أنه من بين الحالات التي ينجح الإنعاش بها -والتي تقارب النصف- لا يتمكن سوى جزء ضئيل يقل عن الثلث من مغادرة المستشفى بسلام، بينما يغرق الباقون في دوامات متتالية من المشاكل الصحية التي تنتهي إما بوفاتهم أو إعاقتهم. يعود ذلك إلى أن التوقف القلبي في كثير من الحالات هو نتيجة نهائية وطبيعية لمرض عضال لن يشفيه الإنعاش وسيستمر في التهام الجسد بعده، بدلاً من كونه حالة عارضة كجلطة أو ما شابه يمكن علاجها بالإنعاش. كما تبين أيضاً أن جزءاً كبيراً من المرضى الذين يتم إنعاشهم ينتهي بهم المطاف في حالة غيبوبة دائمة أو فقدان للوظائف، ممّا يزيد من معاناتهم مع المرض دون جدوى. أدت مثل هذه الظروف إلى ظهور قضايا قانونية مختلفة في العالم الغربي، نتجت عنها قوانين تنظم العمل الطبي عند اقتراب نهاية الحياة.
لقد خطت بلادنا الغالية خطوات جبارة في تنظيم العمل الصحي عند اقتراب نهاية الحياة. وكان أهم هذه التنظيمات حصر القرار النهائي في تحديد أهداف الرعاية الطبية "Goals of Care" باجتماع رأي ثلاثة أطباء متخصصين ثقات يتقصون المصلحة الأسمى للمريض بتمعن وتدقيق. يتميز هذا المسلك بالموضوعية والمنهجية العلمية عند اتخاذ قرار بهذا الحجم. يكون كل ذلك بالطبع في حال فقد المريض القدرة على اتخاذ القرار بنفسه. أما في حال وعي المريض، فتكون الجهود منصبة على جعله يستوعب وضعه الصحي بوضوح ويتخذ القرار الأنسب له. على الرغم من الخطوات الهائلة في هذا المجال، ما زال الوعي الشعبي بحاجة إلى الارتقاء والتثقيف لاستيعاب هذه القضية. ومن الأمثلة الشائعة على الجهل -على سبيل المثال لا الحصر- محاولة أهل المريض إخفاء مرضه عنه للتخفيف من مصابه. ومنها أيضاً خلط ديني يظن الإنعاش على مجمله أخذاً بالأسباب، على الرغم من أن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء قد فصلت في المسألة سالفاً في الفتوى رقم 12086، بجواز ترك الإنعاش -ورفعه حتى- عند انعدام الجدوى أو استعصاء الحالة الطبية حسب رأي الخبراء.
لا ريب أن إنعاش الحياة هو مسعى نبيل في استعادة العيش الكريم في بعض الأحيان، لكنه قد يتحول إلى طريق شقاء وإطالة للموت عند إطالة المعاناة مع المرض في أحيان أخرى. فهو سلاح ذو حدين يصعب على غير المتخصصين تقدير عواقبه. الوفاة الكريمة بطبيعة الحال لا تكون في غرف المستشفيات ودهاليزها وبين ضجيج الأجهزة وأضوائها الساطعة، بل في المنزل وبين الأحبة كما كان في الماضي وعبر التاريخ، وهو ما بات صعباً في ظل متطلبات الحياة العصرية وتطور الطب الحديث. لكن السعي إلى تحقيق ذلك قدر الإمكان عند التحقق من حتمية الموت، من خلال خلق بيئة مشابهة ومسالمة في المستشفى قبل الوفاة والابتعاد عن التدخلات الطبية التي لا طائل منها، هو مطلب يزداد إلحاحاً. وفي الختام أقول: من عاش حياة كريمة لا يبتغي إلا خاتمة كريمة. اللهم أطل في عمر من نحب وأبعد عنهم كل مكروه خلال حياتهم وعند حلول أجلهم.